الحديث الشّريف : فضل السجود والحثّ عليه
ا
<< نقلنا في العدد الماضي من مجلّة الشّهاب مقالا فيتحقيق معنى دعاء المخلوق والتّوسّل به من قلم صاحبه , وها نحن في هذاالعدد ننقل مقالا آخر من ج 4 , م 8 منه فيه زيادة تحقيق لذلك >> .
( قال ربيعة بن كلب الأسلمي , كنت أبيت مع رسولالله صلّى الله عليه وآله وسلّم فأتيته بوضوئه وحاجته فقال لي سل , فقلتأسألك مرافقتك في الجنّة قال : أوَ غير ذلك , قلت : هو ذاك , قال : فأعنّيعلى نفسك بكثرة السّجود . رواه مُسلم واللّفظ له وأبو داود والطّبراني فيالكبير .
الرّاوي : هو أبو فراس قديم الصحبة كان من أهلالصّفة يُلازم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم في السّفر والحضر ماتسنة ثلاث وستّين .
الألفاظ : مع , ظرف مكان مُبهم واسع وهو كان يبيتعند بابه كما في رواية الطّبراني وذلك هو المُراد من مع هنا , حاجته , مايحتاج إليه غير الوضوء أو على وجه تسكينها هي أو التي للتّخيير أو للإضرابوعلى وجه فتح الواو هما كلمتن همزة الاستفهام والواو العاطفة , هو , أيمسئولي ذاك أي المذكور وهو المرافقة , الإعانة مُشاركة الفاعل في العملليَخف عليه ويَسهّل وينتهي منه إلى غرضه .
التّراكيب : حذف مفعول سل للتّعميم وهو المُناسبلمقام الإفضال في السؤال , غير معطوف على موافقتك من عطف لفظ في كلام علىلفظ في كلام آخر عند ما يقصد المُتكلّم ربط كلامه بكلام المُتكلّم قبلهلنحو تلقينه فيكون مجموع الكلام هكذا : أسألك مرافقتك في الجنّة أو غيرذلك , والكلام وإن كان خير فهو في قوّة الطّلب ولذلك كانت أو للتّخيير ,هذا كلّه على وجه أو التي للتّخيير وأمّا إذا كانت الهمزة للاستفهام فإنّالواو عطفت جملة على جملة وتقدير الكلام : أتترك ما سألت وتسأل غير ذلكوالاستفهام هنا المُراد به الطّلب يَطلب منه أن يترك سُؤال المرافقة ويسألغيره , هو ذاك , تُفيد الحصر أي مسئولي هو المرافقة لا غيرها .
المعنى : كان هذا الصّحابي رضي الله تعالى عنه يخدمالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم ويبيت عند باب بيته ليأتيه بما يحتاجإليه من ماء يتوضّأ به أو غيره , فأراد النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّمأن يُجازيه على خدمته فأمره أن يسأله ليُعطيه فأعرض هذا الصّحابي عن جميعمطالب الدّنيا وسأله أعزّ مطلب في الآخرة وهو مُرافقته له في الجنّة ,ولمّا كانت هذه المُرافقة تقتضي درجة رفيعة في الجنّة أخصّ من مُطلق دخولالجنّة وهذه الدّرجة تقتضي العمل الشّاق حاول النّبيّ صلّى الله عليه وآلهوسلّم صرفه عن هذا السّؤال الذي فيه العمل الشاق الذي رُبّما لا يُطيقهإلى غيره ممّا هو أسهل من المطالب فصمّم الصّحابي على سؤاله وأبى أن يسألغيره فقبل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم سُؤاله على أن يُعينه علىنفسه لتحصيل المطلوب وأرشده إلى ما هو وسيلة في رفع الدّرجات وهو كثرةالسّجود فإنّ العبد لا يسجد لله سجدة إلاّ رفعه الله بها درجة وحطّ عنهبها خطيئة كما ثبت في الصّحيح .
زيادة بيان : قد جاء هذا الحديث عند الطّبرانيبأبسط من رواية مُسلم وذِكر الرّواية المطوّلة يُوضّح لنا الرّوايةالمختصرة ورواية الطّبراني كما في << التّرغيب والتّرهيب >>هي هذه : ( قال كعب : كنت أخدم النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم نهاريفإذا كان الليل آويت إلى باب رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم فبتعنده , فلا أزال أسمعه يقول سُبحان الله سُبحان ربّي حتّى أملّ أو تغلبنيعيني فأنام , فقال يوما : يا ربيعة سلني فأعطيك , فقلت أنظرني حتّى أنظر ,وتذكّرت أنّ الدّنيا فانية مُنقطعة فقلت يا رسول الله أسألك أن تدعو اللهأن يُنجّيني من النّار ويُدخلني الجنّة فسكت رسول الله صلّى الله عليهوآله وسلّم ثمّ قال : من أمرك بهذا ؟ قلت ما أمرني به أحد ولكنّي علمت أنّالدّنيا مُنقطعة فانية وأنت من الله بالمكان الذي أنت منه فأحببت أن تدعوالله لي , قال : إنّي فاعل , فأعنّي على نفسك بكثرة السّجود ) .
النّظر في الرّوايتين : بيّنت المطوّلة أنّه كانيخدمه بالنّهار واللّيل وأنّه ما سأل إلاّ بعد النّظر والتّفكّر وأنّه لميسأل النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم أن يُعطيه الجنّة وإنّما سأله أنيدعو الله تعالى له لعلمه أنّ دعاءه مًستجاب والنّبيّ صلّى الله عليه وآلهوسلّم وعده بأنّه يفعل ما طلبه منه وهو دعاء الله تعالى له , غير أنّالرواية المطوّلة فيها أنّه سأل النّجاة من النّار ودخول الجنّة والرّوايةالمختصرة فيها أنّه سأل مُرافقته له في الجنّة وهي أخصّ من مطلق الدّخول .
الجمع والتّرجيح : كلّ ما في المطوّلة ممّا هو زائدعلى المختصر غير معارض لشيء فيها فهو مع المختصرة حديث واحد رُوي مطوّلاومختصرا وإن تفاوتت طريقاه . وما جاء فيها معارضا لشيء في المختصرة وهوسؤال دخول الجنّة المعارض لسؤال المرافقة فإنّنا نأخذ بما في المختصرةترجيحا لها لقوّة سندها .
توجيه : المرافقة في الجنّة لا تقتضي المساواة فيالمنزلة والكرامة أصله قوله تعالى (<< فأولئك مع النبيين ــ إلى ــوحسن أولئك رفيقا >>) ولهذا سألها هذا الصّحابي , ولمّا كان منالملازمين للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في الدّنيا توجّهت همّته إلىمرافقته في الأخرى فسأله ذلك .
فوائد الأحكام : في الحديث جواز قبول التبرّعبالخدمة من النّاس وخصوصا لأهل المقامات العامّة في مصالح النّاس وفيه فضلالقيام من جوف الليل ــ من قوله آتيه بوضوئه ــ وفيه سُنّة مكافأة المحسنعلى إحسانه وفيه مشروعيّة سؤال الدّعاء وخصوصا ممّن تُرجى له الاستجابةوفيه عدم الاكتفاء بالدّعاء وحده عن التّوسّل بالطّاعات ونوافل الخيراتوفيه فضل السّجود والحث عليه وفيه دليل لمن يقول بأفضليّة كثرة السّجودعلى طول القيام .
إرشاد وتحذير : سأل هذا الصّحابي النّبيّ صلّى اللهعليه وسلّم أن يدعو له الله ولم يسأله هو أن يُعطيه الجنّة لأنّ الذييُعطي هو الله تعالى ولأنّ الذي يُسأل منه العطاء هو الله تعالى كما قالالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لابن عبّاس فيما رواه ( وإذا سألتفاسأل الله ) فمن المخلوق تسأل الدّعاء ومن الخالق تسأل العطاء ومن أدلّةالأوّل هذا الحديث ومن أدلّة الثاني حديث ابن عبّاس المذكور , وكثير منالنّاس من يسألون ممّن يُعظمون نفس العطاء وخصوصا من الأموات ــ رحمهمالله ــ في قبورهم , فأرشدهم بمثل ما سمعت وحذار أن تكون منهم , الترمذيوقال حسن صحيح .
بيان عقيدة وإبطال ادّعاء : لمّا سأل هذا الصّحابيالنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم وعده بالدّعاء وأرشده إلى العملالصّالح وهو كثرة السّجود ولم يقل له النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّمإنّني ضامن لك ذلك ولا أنت مضمون ولا أنت في ضماني لأنّ العبد لا يجوز لهأن يضمن على خالقه بدون إذنه شيئا وإذا كانت الشّفاعة التي هي طلب منه لاتكون عنده إلاّ بإذنه فكيف الضّمان الذي هو التزام على القطع فمن الغرورالعظيم والجهل الكبير والجراءة الكبرى على الله تعالى قول بعض المدّعين (روح راك مضمون ) وقول آخرين ( من دخل دار كذا فهو مضمون ) و( أنل ضامنّيالشيخ ) و ( يا دار الضمانة ) ونحو ذلك , ممّا يقوله الجاهلون ويذكرهالعالمون ويبرأ منه الصّالحون .
حقيقة نفسية : العبد بين داعيين مُختلفين دينهيدعوه إلى الحسنى وينهض به للعلاء ونفسه تدعوه إلى السّوأى وتنحطّ به إلىالحضيض , ولا ينحطّ المسلم عن مقامات الكمال إلاّ بإجابته داعي نفسهوإعراضه عن داعي دينه فالنّفس هي الجاذب القوي إلى دركات الانحطاط , ولمّاكان دعاء النّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم لهذا الصّحابي سببا في رفعدرجاته وكانت نفسه إذا خلاّها على هواها مانعة له من ذلك الرّفع فصارالدّعاء النّبوي والنّفس الأمّارة كالمتنازعين فيه ــ أمره بأن يُعينه علىنفسه بكثرة السّجود , ولم يقل له أعنّي على مطلوبك أو تحصيل مُرادك بل قالله أعنّي على نفسك , وفي هذا تنبيه له على أنّ النّفس هي المعرقلة للعبدعن الصّعود في سلّم السّعادة وأنّه إذا قهرها وغلبها فقد تيسّرت له أسبابالكمال .
(الصّراط السّوي العدد العاشر )
من هنا مقالات أخرى